من الصعب ترك هذا المجال في دراسة التجارة الدولية بدون الحديث عن الأسباب وراء هذا الزخم والنمو الهائل في حجم التجارة والاستثمار الخارجيين ، ونمو الشركات الدولية وازدياد عملياتها بين الدول ، مما اصطلح على تسميته " بالعولمة الاقتصادية " . وهناك أيضا " العولمة السياسية " التي يصبح فيها للقرارات السياسية في بلد ما ، آثار على أماكن بعيدة ، وكذلك " العولمة الثقافية " التي يزداد فيها تلافح الثقافات وتنافسها وربما تشرذم بعضها . و" العولمة في إدارة الأعمال " هي مرحلة متقدمة تدير فيها الشركات أعمالها بدون اعتبار للحدود وهي أوسع من " التدويل " . وما يهمنا هو " العولمة الاقتصادية الإدارية والبحث عن القوى وراءها " . وفي نظرنا أن الدوافع وراءها تتمثل في العوامل التالية :
تحرير التجارة الدولية :
رفع الحواجز أمام تدفق السلع والخدمات من جانب الدول ، لعب دورا حاسما في نمو التجارة ، وأداء ذلك الأساسية ، كان قيام اتفاقية الجات ( الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة ) عام 1947م في جنيف حيث وقعتها ( 22 ) دولة ، حينها ، ضمت الدول التجارية الرئيسية ، وقد نمت عضويتها حتى وصلت ( 170 ) دولة عندما حلت منظمة التجارة العالمية محل الاتفاقية في أول 1995م . كانت الجات تعمل من خلال دورات تفاوضية تستغرق عدة سنوات تتفق فيها الدول على جدول زمني لتخفيض الرسوم الجمركية بنسب محددة . وقد أكملت الجات ثماني دورات كان آخرها دورة أوروجواي ، وكانت قوائم ونوعية السلع والحواجز المستهدفة تتسع من دورة لأخرى .
ازدياد التكامل الاقتصادي :
التكامل الاقتصادي أوسع من تحرير التجارة ، لأنه يشمل تسهيل انتقال عناصر الإنتاج ، بالإضافة إلى انتقال السلع ، كما قد يتضمن تنسيق السياسات بين الدول وربما توحيد العملة ، لكنه عادة يشمل عددا من الدول أقل مما في تحرير التجارة في الجات.
التكامل الاقتصادي يزيد التجارة بين الدول الأعضاء ، ويرشد الاستثمار ، ويعطي مجالا لنمو الشركات من خلال اقتصاديات الحجم . وقد كان قيام السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي أكبر مثال ناجح في هذا المجال ، ساعد كثيرا في نمو التجارة والاستثمار بين الدول الأوروبية وخارجها ، وهو المثال الذي سعت كثير من الدول إلى احتذائه ، فانتشرت المجموعات الاقتصادية بدرجات متفاوتة من النجاح .
تحرير الاقتصاديات :
أي تحكيم قوى السوق ، وهو أمر حديث ، وبعد الدور المتعاظم للدولة في الاقتصاد بعد الحرب العالمية الثانية ، سواء أكان في التوجه إلى الاشتراكية والشيوعية أو نحو الكينزية ، بدأت في منتصف السبعينيات حركة في الاتجاه المعاكس ترمي لتقليل دور الدولة في الاقتصاد ورفع يدها عن الإنتاج وعن التنظيم ، وهنا نلحظ ثلاثة توجها رئيسية :
( أ ) رفع القيود الحكومية التي تستبعد القطاع الخاص من بعض المجالات ، أو تحدد الأسعار والفوائد ، أو ما يمكن أن تقوم به المؤسسات الدولية ، الخ .. بدأت هذه الحركة في الولايات المتحدة بتحرير أسعار تذاكر الطيران ، وفوائد البنوك . ولقي هذا التوجه دفعا شديدا من التاتشرية في إنجلترا ، وسرعان ما انتشر في دول أخرى . والتحرير الاقتصادي عادة ما يتبعه ( لكن ليس بالضرورة ) تحرير وتفتح على العالم .
( ب ) التخصيص ، وهو تحويل ملكية المنشآت الإنتاجية الحكومية أو تحويل إدارتها إلى القطاع الخاص ، أو تعريضها للمنافسة . بدأت حركة التخصيص هذه في عهد مسز تاتشر في بريطانيا التي باعت للقطاع الخاص مؤسسات مثل : شركة الخطوط الجوية البريطانية ، وشركة الاتصالات . ومن ثم انتشرت حركة التخصيص لتشمل دولا كثيرة . والتخصيص يتضمن دورا حتميا للشركات الأجنبية ، لأن تشغيل وإدارة وتحديث هذه المؤسسات الضخم يتطلب قدرات مالية وتنظيمية وتقنية لا تتوافر عادة إلا عند الشركات الدولية .
( ج ) انهيار الشيوعية ، وذلك هو خاتمة المطاف في التحرير الاقتصادي ، الذي فيه تحولت دول بكاملها من التخطيط المركزي والاكتفاء الذاتي إلى تحكيم قوى السوق والانفتاح نحو العالم . انهيار الشيوعية حرر اقتصادية هذه الدول ، وفتحها أما الاستثمار والتجارة مع الخارج ، مما جذب الشركات الدولية .
التقنية :
بالإضافة إلى كونها مصدرا للسلع الجديدة والمحسنة ، تؤثر التقنية في ثلاثة جوانب رئيسية هي :
( أ ) ابتداع طرق الإنتاج الشامل لتلبية حاجة أعداد متزايدة من المستهلكين في الداخل والخارج .
(ب) تحسين طرق المواصلات لنقل أعداد وكميات أكبر من الموارد والبشر لمسافات أطول وبطرق أرخص وأسرع .
(ج) تحسين وسائل نقل ومعالجة المعلومات للتحكم في الموارد والعمليات في أماكن مختلفة من العالم .
التطور في تقنية الإنتاج وابتداع سير التجميع ، جعل الإنتاج غزيرا ، مما يتطلب أسواقا أكبر من الأسواق المحلية ، وسهلت الحاويات والسفن العملاقة والطائرات النفاثة التوزيع في أرجاء العالم . أما تقنية المعلومات ، فوسعت أفق الشركات ومكنتها من معرفة متطلبات الأسواق البعيدة ، والاستجابة لها ، والتحكم في عملياتها . وهناك ثورة المعلومات التي حولت الأموال إلى بيانات تنقل عبر الأثير ، مما مكن من تحويل مبالغ هائلة إلى أقاصي الأرض في ثوان . إنفاق الحكومات على البحث والتطوير ، هو أحد الأسباب وراء التقنيات الجديدة هذه ، لكن للشركات الدولية دورا في تطورها يفوق دور الحكومات بمراحل ، بالإضافة إلى دور الشركات في العولمة الذي نلتفت إليه الآن .
الشركات متعددة الجنسية :
هذه الشركات هي سبب مثلما هي نتيجة للعولمة ، بل لها في رأي بعض الكتاب دور محوري في عملية العولمة هذه ، فيما يرى ديكن أن الشركات متعددة الجنسية هي أكثر أهم قوة منفردة وراء التحولات في النشاط الاقتصادي العالمي وعزوا ذلك إلى :
تحكمها في نشاط اقتصادي في أكثر من قطر .
قدرتها على استغلال الفوارق بين الدول .
مرونتها الجغرافية .
لهذه الشركات شبكات داخلية وشبكات خارجية مع شركات ومؤسسات أخرى ، من خلالها يتم نقل وتبادل السلع والخدمات والاستثمارات داخل وخارج الشركات وبين الدول . وهذه الشبكات هي الخيوط التي عبرها تتصل وتترابط أجزاء الاقتصاد العالمي ، ومن خلالها يتم التخصص بين الدول . تسيطر هذه الشركات مثلا على حصة كبيرة من تجارة اليابان والولايات المتحدة ( حوالي النصف ) و80% من تجارة بريطانيا هي معاملات بين شركات وفروعها وقد رأينا سلفا ، كيف أن المبيعات الخارجية للشركات ( أي خارج موطنها ) تكاد تعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق