التطورات في الأسواق العالمية والمالية :
شهدت البيئة المالية الدولية تحولات جمة ، وتوسعا في الأعمال ، وازديادا في عدد اللاعبين المشاركين فيها ، وبإمكاننا أن نجمل هذه التطورات في النقاط التالية :
الزيادة الهائلة في حجم العمليات : في أوائل الثمانينيات ، قدرت دراسة حجم تدفق الأموال عبر الحدود بـ 20 بليون دولار سنويا ، وفي منتصف الثمانينيات ، قدر " دركر " أن حجم سوق لندن للدولار الأوروبي بلغ 300 بليون دولار يوميا أما في منتصف التسعينات ، فقد قدرت مجلة يورموني (1996) حجم المعاملات اليومية من العملات مثلا بـ 1.300 بليون دولار . أما آخر تقرير لمصرف التسويات الدولية فقد قدر حجم التعامل اليومي في أسواق العملات بـ 3.2 تريليون دولار في أبريل 2007 .
بسبب هذه الأرقام ، وضع " دركر " انتقال رأس المال بين الدول كأهم نوع من التعاملات بين الدول متخطيا بذلك التجارة والاستثمار المباشر .
هذه الزيادة وهذا التحول ، لم يتما إلا بسبب العوامل التالية :
رفع القيود عن المعاملات المالية : وقد بدأ ذلك تدريجيا في السبعينيات بتعويم الدولار أولا الشيء الذي عني بعد مدة تعويم العديد من العملات الأخرى ، وكأن أن خلق هذا التعويم سوقا جديدة يضارب فيها المتعاملون من أجل تحقيق الربح . فالعملات ثابتة السعر لا تعطي مجالا لجني الأرباح من المضاربة فيها . أعقب ذلك في السوق الأمريكية إلغاء اللائحة كيو (Q) ، التي كانت تضع حدا أعلى لسعر الفائدة الذي تقدمه البنوك لأصحاب الودائع . وقاد ذلك إلى أن أصبح سعر الفائدة من أدوات المنافسة بين البنوك . رفع القيود يتمثل أيضا في إنهاء الرقابة على الصرف في كثير من الدول ، والسماح بتحويل الأموال عبر الحدود وكذلك السماح للمؤسسات المالية بدخول مجالات لم يكن مسموحا لها بدخولها ، وفتح الأسواق عموما أمام متعاملين غير تقليديين ، أو السماح للأجانب بشراء أسهم الشركات بكميات أكبر ، أو سماح الحكومة اليابانية للشركات اليابانية بطرح سندات مقومة بالين بعد أن كانت ممنوعة من ذلك في السابق . رفع القيود عن الأسواق المالية جزء من رفع القيود عن النشاط الاقتصادي عامة بتحرير أسواق العمل ، وأسواق المواد والسلع .
التقنية والأتمتة : تقنية المعلومات ، حولت الأموال إلى بيانات ومعلومات وبذا يمكن نقلها بين الدول بسرعة البرق دون الحاجة إلى نقل الأموال ذاتها ، حيث أصبحت النقود مجرد أرقام في سجلات ، وبذا مكنت ثورة المعلومات من نقل هذا الكم الهائل . التقنية والأتمتة سهلتا المعاملات لنقل الملكية أو تلقي وإرسال أوامر الشراء بين المصارف أو تبادل الأسهم في البورصات . ولم يعد مسافر اليوم يحتاج إلى الشيكات السياحية فبطاقة الصرف الآلي تستخدم في كل مكان ، وبطاقات الاعتماد مقبولة في جميع أنحاء العالم . التقنية الحديثة جعلت ذراع الشركات في بحثها عن التمويل طويلة ، وبإمكانها أن تجد التمويل في أماكن بعيدة .
انتشار الأوراق المالية ( التوريق ) : ازداد التعامل بالأوراق المالية كالأسهم والسندات العادية ، والسندات القابلة للتحويل والكمبيالات . الخ بطريقة ضخمة . من جانب الفرد العادي ، زاد عدد من يملكون أسهما في البورصة أو من يشتركون في صناديق استثمارية وذلك لازدياد الدخل ، وازدياد الوعي الاستثماري . فبدلا من وضع أموالهم تحت " البلاطة " أو حساب جار أو وديعة في مصرف ، أصبح الأفراد يفضلون استثمارها إما مباشرة أو من خلال صناديق يديرها آخرون . وبالإضافة إلى ازدياد الوعي ، هنالك الخصخصة التي طرحت بلايين الأسهم في الدول لشركات كانت حكومية في الدول المختلفة ، وأصبح الآن يمتلكها قطاع عريض من المستثمرين لم يكن بعضهم يملك الكثير من قبل .
كذلك هناك تحول الشركات الخاصة والشركات العائلية إلى شركات مساهمة خالقة بذلك فرصا استثمارية جديدة أمام كثير من المستثمرين ، لم يكن بعضهم يمتلك أدوات استثمارية .
هناك أيضا الحكومات التي تمول ميزانياتها بطرح بدلا من مجرد طبع البنكنوت ، وقد بدأت كثير من الدول تلجأ إلى ذلك ، كما رأينا في الكويت والسعودية خالقة بذلك المزيد من الأدوات الاستثمارية . العولمة أيضا ظهرت فرصا أمام الشركات الدولية للتوسع ولجوء الشركات والمؤسسات إلى طرح الأسهم والسندات لتمويل التوسع . حركة " التوريق " هذه أحيت الأسواق المالية ، وازدادت من حركتها وأثرتها .
السلع المالية الجديدة : في السابق كانت الأدوات الاستثمارية المالية محدودة ، لكن الانتعاش وزيادة المتعاملين ، كان لابد أن يؤديا إلى إبداعات وابتكارات جديدة يعدها مصممو الخدمات المالية تلائم المستثمرين وأوضاعهم المالية ولمنحهم خيارات لاستخدام أموالهم . بالإضافة إلى تعدد أنواع الأسهم ما بين أسهم عامة ومفضلة وفئاتها أو السندات القصيرة والطويلة الأجل بدأت تظهر سلع جديدة . في تبادل العملات ، ظهرت مثلا خيارات عقود الآجل ، أي بدلا من الالتزام بشراء مبلغ معين من عملة أجنبية بسعر محدد بعد فترة محددة يشتري المشتري حق الشراء الذي يمكن أن يمارسه أو يدعه إذا دفع الرسوم . هناك أيضا المبادلات كمبادلة الدين ، أو مبادلة الفائدة بفائدة ، أو تحويل الدين إلى مساهمة .
هناك نوعان من السلع الجديدة لهما دور كبير في توسع الأسواق ، وهما توريق الأصول ، والمشتقات . وفيما يختص بالتوريق لنتذكر أنه لم يكن من السهل في السابق على الممول الأساسي كمصرف أو وكالة رهن عقاري مثلا أن يبيع أصوله كمستحقاته على من مول شراءهم لمنزل مثلا إلى مصارف أو مؤسسات رهن أكبر ، لأن تلك الأصول عادة تكون متنوعة أو صغيرة ومتعددة ومطلوبة من عديدين . أما مع التوريق فقد أصبح من الممكن جمعها في حزمة واحدة وتقسيمها إلى عدة أجزاء ، ومن ثم يبيع أجزاء مختلفة منها إلى مؤسسات أكبر . التوريق هنا أشبه باختراع الحاويات في مجال النقل الذي مكن من جمع " سلطة " من الأمتعة والطرود مختلفة الأشكال والأحجام في حاوية واحدة ، مما سهل مناولتها ومتابعتها فأحدث ذلك ثورة في مجال النقل . لذلك مكن نظام التوريق ، هذا كثيرا من المؤسسات ، من أن تزيد التداول في هذه الأصول وبالتالي تتعدد الهوامش الربحية ، وتنتقل المخاطر إلى آخرين . انفتاح الأسواق جعل هذه الأصول تتسلل لتظهر كأصول في حسابات مؤسسات في بلاد بعيدة عن بلد المعاملة الأصلي . أما المشتقات فهي كما يوحي لسمها ، فهي عمليات إضافية مشتقة من العملية الأصلية كالمبادلات والخيارات والخدمات الملحقة بأي عملية . نمت هذه المشتقات أيضا بدرجة مذهلة ، وأصبح حجمها يفوق المعاملة الأصلية ، وأهمها تلم المتعلقة بالأسهم غير المسجلة وعقود المواد الأساسية .. الخ هذه الأصول اكتسبت حاليا سمعة سيئة ، وأصبحت توصف بالأصول السامة ، لأن إمكانية تمرير المخاطر إلى أعلى جعلت الكثيرين يتساهلون في منح القروض والرهون ، خاصة في مجال العقار مما تسبب في فقاعة الرهون الحالية .
كبر حجم المؤسسات المالية : كما كبر حجم السوق كلما ازدادت فرص التخصص والاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير ، والآن وقد انفتحت الأسواق فيما بينها وأصبح بإمكان الشركات العمل في أكثر من سوق ، غدا الحجم الأمثل المطلوب للاستفادة من وفورات الحجم الكبير أكبر . من الجانب الآخر ، هناك تشابه متزايد في الطلب على الخدمات المالية في الدول المختلفة ، وتقارب في أساليب الصرافة ، مما جعل شركات بطاقات الائتمان مثلا ترويج لبطاقاتها في أعداد متزايدة من دول العالم . وكذلك نجد الصرافة الآلية في كل البلاد ، خلاف طلبات المستثمرين المتشابهة في الدول المختلفة للصناديق الاستثمارية . الخ .
كل ذلك يجعل المؤسسات المالية تسعى إلى التوسع بالاندماج والاستملاكات والتحالفات ، حتى تستطيع أن تخدم هذه الأسواق بصورة أكفأ وتتمكن من دخول أسواق لم تكن تستطيع دخولها منفردة أو أن تقدم خدمات من خلال الشريك الجديد لم تكن تقدمها . وطبعا هناك دائما النمو من خلال إنشاء الفروع الجديدة والتوسع في الوسائل الحالية . وكأمثلة لهذه الاندماجات الحديثة هنالك اندماج بنك الاتحاد السويسري مع الشركة السويسرية المصرفية في بنك واحد واندماج مجموعتي سيتي كورب وترافلرز الأمريكيتين لتقدما خدمات لمائة مليون عميل في 110 قطر أو شراء دويتشه بانك الألماني لمؤسسة مورجان جرنفل البريطانية الاستثمارية ، ثم شرائه لبانكرز ترست الأمريكي ، وكل ذلك في النصف الثاني من التسعينيات . وقد بدأت حركة كبر الحجم عندنا في العالم العربي ، كاندماج البنك السعودي المتحد مع البنك السعودي الأمريكي أو شراء مؤسسة الخليج للاستثمار لبنك الخليج الدولي الذي اشترى البنك السعودي العالمي ( لندن ) حديثا ، أو صفقة اندماج مصرف بيلبوس مع مصرف بيروت في لبنان . الخ . وهناك صفقات كثيرة مرتقبة ، وعموما يبدو أن المستقبل في السوق المالي سيكون للحجم الكبير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق