القول بأن الاستثمار كان دائما مسار جدل لا يوفي الموضوع حقه ، وفيه تخفيف لحدة الخلاف حول الموضوع . الاستثمار الأجنبي لم يكن مسار جدل وحسب ، بل قامت حوله نظريات ثورية راديكالية وصلت ذروتها في الفكر الماركسي ، الذي يرى في الاستثمار الأجنبي توسعا رأسماليا وامتدادا للاستعمار . من الجانب الآخر ، عزز التعصب الوطني المناهض لكل ما هو أجنبي من ذلك . وفي تاريخ الاستثمار الأجنبي ، من الوقائع العديد الذي يغذي تلك النظرة . نعم كانت التجارة تتبع العلم في القرون الماضية ، وهي بداية هذا القرن ، وارتبط الاستثمار الأجنبي فعلا بالمستعمر الأجنبي ، بل إن بعض البلدان غزتها الشركات الأجنبية أولا ، ومهدت للمستعمر بعد ذلك مثلما حدث في الهند في ذلك المثال الساطع الذي جرت فيه شركة الهند الشرقية جيوش " جون بول " من وراءها .
أما الآن ، فقد انتهى زمن الاستعمار والإمبراطوريات ، وأمسكت الدول المستعمرة سابقا بزمام أمرها وأكدت استقلاليتها ، ومع النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي ، انضمت عشرات الدول إلى صف الدول المستقلة . ولم يكد العقد الأخير من القرن العشرين يبدأ حتى باءت الماركسية والفكر الاشتراكي بفشل زريع ، وانهارت الدول الاشتراكية واحدة إثر أخرى ، لأنها عجزت عن أن تقود مواطنيها إلى ( الجنة الموعودة بل أفاقوا ليجدوا أنفسهم وقد تخلفوا عن الركب ، وعجزوا حتى عن الحصول على بعض ضروريات الحياة .
هذا لا يعني أن الاستثمار الأجنبي بدأ يلقى استقبالا طيبا حيثما حل . ففي بلد مثل فرنسا ، ومن مطلق ليس بالضرورة اشتراكيا ، كتب سيرفان شرايفر في أواخر الستينيات يحذر من سطوة الشركات الأمريكية في الدول الأوروبية في كتابه الشهير " التحدي الأمريكي " فأثار بذلك زوبعة واهتماما ، ووضع الشركات الأمريكية في أوروبا تحت المجهر . وفي الدول النامية المستقلة حديثا وإلى عهد ريب ، كان الاستثمار الأجنبي قضية سياسية . وفي الولايات المتحدة نفسها ، هناك توجس من الشركات اليابانية التي بدأت تشتري بعض رموز القوة الأمريكية ، مثل مركز روكفلر الشهير في نيويورك ، وشركة كولمبيا السينمائية في هوليوود .
في الوقت الحالي ومنذ الثمانينيات ، خفت حدة الجدل ، وفقد كثيرا من مضامينه العقائدية والنعرة القومية وأصبح ينظر إلى الاستثمار الأجنبي نظرة براجماتية ، فهو ليس خيرا كله . لكن الشركات مازالت تجد نفسها متنازعا عليها ، فهناك من يريد أن يقلص نشاطها في بلده وهناك من يريدها كلها لمصلحته . وقد ساعد كبر حجر حجم الشركات الأجنبية النسبي في تركيز الضوء عليها . ولقد رأينا في الفصل الأول ، كيف أن لبعض هذه الشركات حجم مبيعات يفوق حجم الدخل القومي في كثير من الدول النامية ، الشيء الذي جعل البعض يرى في الشركة الأجنبية صورة غول ضخم ، ومن أمامه ديفيد الصغير ممثلا في الدولة المضيفة .
الشركات الأجنبية ذات أثر كبير لاشك في ذلك ، ولها وقع على اقتصاد أي بلد تعمل فيه . هذا الأثر لها جوانب حميدة وجوانب ضارة وحجمه يتفاوت ما بين أثر طاغ وأثر هامشي . ترحب الدول بالأموال والتقنية التي يجلبها الاستثمار الأجنبي وبالأسواق التي يفتحها المستثمرون الأجانب لصادرات تلك الدول ، لحكن تلك الدول في نفس الوقت ، تخشى من تأثير الشركات ( م . ج ) السلبي على موازين مدفوعاتها ، وعلى شركاتها المحلية التي ليست صنوا للشركات الأجنبية . وتخاف الدول فوق ذلك الآثار السياسية التي قد يأتي بها ذلك الاستثمار .
وتجد الشركات متعددة الجنسية نفسها من جراء ذلك مواجهة بضغوط متعددة من مجمعات مختلفة ، والكل طبيعيا يسعى لمصلحته . هناك أولا مساهموا الشركة الذين يملكونها ، وهناك دائنوها والزبائن والعاملين فيها والمجتمع ككل . على الشركات اليوم أن ترضي كل هؤلاء بالإنتاج الوفير الرخيص للمستهلكين والأجور العالية للعاملين والأرباح الكبيرة للمساهمين ، وكل ذلك مع نظافة البيئة . في هذا التعارض تحد كاف لإدارة أي شركة في الداخل ، فما بالك بالتعارض في الخارج . وكأنما كل ذلك لا يكفي ، فالدولة الأم – دولة المقر – ومواطنوها ينتقدون نشاط شركات بلدهم في الخارج ، يصبح العامل الأمريكي مثلا في وجه مواطنه الذي يستثمر في المكسيك : ( لا يهمني كم وظيفة خلقت في المكسيك ، لقد أخذت معك في وظيفتي ) . وقرارات إدارة الشركة الأجنبية تؤخذ في بلد ويتأثر بها بلد آخر ، وكيف لا ! فهي قرارات خاصة بالإنتاج وتشييد الوحدات أين تقام ، وبالبحوث والتطوير أين يتم ، وبالأسعار كيف تكون وبالأرباح وأين تذهب ؟ ومجرد تفضيل بلد على آخر كمركز للإنتاج أو التصدير ، قرار له آثار بعيدة على كلا البلدين .
دول العالم كما أسلفنا ، غيرت من نظرتها بدرجة كبيرة . الدول النامية بدأت في تحرير اقتصادياتها ، وهي تعمل لجذب المستثمرين الأجانب بعد فشل سياسات عقدي الستينات والسبعينات الاشتراكية . اليابان بدأت في فتح أسواقها للأجانب ، وقد شاهدنا قبل فترة كيف فتحت الهند والسويد والنمسا أسواق الأسهم للأجانب . وأصبح اقتصاد السوق والانفتاح الجزئي على الأقل – سمة السياسة الاقتصادية في هذه الحقبة من التاريخ . هذا لا يعني خلو الأسواق من القيود ، فالنظرة مازالت براجماتية ترى في الاستثمار الأجنبي مساوئ ومحاسن ، ولذا تعمل الحكومات على تعظيم المحاسن وتقليل المساوئ ، والاستفادة بأصى قدر يمكن مما تقدمه الاستثمارات الأجنبية للاقتصاد المحلي ، مع قصر المساوئ للحد الأدنى . النظرة الحالية هي نظرة كلية توازن بين الموجب والسالب بدون تركيز على واحد وإهمال الآخر . لم يعد ينظر إلى الاستثمار الأجنبي وكأنه مباراة حاصل نتيجتها دائما صفر ، حيث ما يكسبه طرف هو بالضرورة هو خسارة الطرف الآخر . لمماذا لا يكسب الطرفان إذا أمكن ، وإذا لا يمكن فلا داعي للاستثمار من وجهة نظر الشركة أو الجولة المضيفة . حقيقة إن الخلاف بين الدولة المضيف والشركة ( م . ج ) أصبح يدور حول توزيع المكاسب بين الطرفين أكثر من كونه نزاعا حول من يكسب ومن يخسر .
من وجهة نظر الدولة المضيفة ، أصبح إذا من المهم جدا معرفة أثر كل استثمار أجنبي على اقتصادها ، وعلى تحقيق الأهداف القومية . لا يصعب على الشركة حساب فوائدها وخسائرها ، إذ لها وسائلها لتقييم استثماراتها ، أما الدولة المضيفة فهي التي تجد صعوبة في تقييم وقع الاستثمار عليها ، وتحديد حجم الفوائد والمضار بصورة دقيقة . والطريقة المثالية لمعرفة أثر متغير ما على آخر ، هي معرفة ما كانت ستكون عليه حالة المتغير الثاني بدون وجود المتغير الأول ثم مع وجوده . معنى ذلك في هذه الحالة ، هو معرفة ما كان سيكون عليه الوضع الاقتصادي بدون ذلك الاستثمار ، ومقارنته بما سيكون عليه مع الاستثمار ، ثم الحكم بعد ذلك . لكن ذلك صعب المنال ، إن لم يكن مستحيلا ، إذ من يدرك وكيف يدرك ما كانت ستؤول إليه الأمور لو لم يحدث كذا وكذا ؟ فذلك علمه عند الله سبحانه وتعالى . والأمر كذلك ، علينا أن نبحث عن أساليب أخرى لتقييم الأثر الكلي للاستثمار الأجنبي على الاقتصاد ، وبالإمكان أخذ أثر استثمار منفرد ( لشركة محددة ) ، أو تقييم مجمل الاستثمارات ، وكلاهما أمران معقدان ، إلا أنه من الضروري الوصول إلى مؤشرات لذلك حتى نستطيع على أساسها أن نسمح للشركة الأجنبية بالاستثمار أو نمنعه كلية ، أو نحدده ونقيده أو نسمح به جزئيا أو نسمح به مع وضع قوانين أو فرض ضرائب لتعظيم الإيجابيات وتقليل السلبيات .
في الموضوعات التالية ، ننظر إلى كيف نحدد الأثر المحتمل للاستثمار الأجنبي على الجوانب المهمة في الاقتصاد المحلي لأي بلد بداء بأثره على ميزان مدفوعات البلد المضيف ثم أثره على الدخل ، وعلى العمالة ، والموارد ، وتقنية الإنتاج ، والإدارة . بعد ذلك نقدم مثالا تحليليا لحساب المنافع ، والتكاليف ، وأخيرا نستعرض القوانين التي تمنح الحوافز ، وتضع القيود على الاستثمار الأجنبي في البلاد المختلفة ونعلق على فعالياتها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق