يعكس ميزان المدفوعات كل بلد مركزها المالي في تعاملها مع باقي دول العالم ، وقدرتها على اقتناء موارد وسلع خارجية ، والكل يعمل لتقليص عجزه في التعامل مع باقي العالم ، بل لتحقيق فائض إن أمكن . والنشاط الأجنبي بالضرورة ذو آثار على ميزان المدفوعات قد تكون موجبة وقد تكون سالبة ، وقد يقول قائل : إن فائض أي بلد هو بالضرورة عجز بلد آخر ، وذلك صحيح من ناحية مطلقة لكنه تفكير استاتيكي قصير النظر ، فالمهم هو ما يحدث على المدى الطويل . وحتى العجز في ذاته قد يكون مقبولا إذا حسن من أشياء أخرى . قد يقود الاستثمار إلى عجز في ميزان المدفوعات لكن علينا أن نوازن بين ذلك وبين آثار الاستثمار الأخرى ، فهو قد يحقق زيادة في الدخل القومي التي تقود بدورها إلى زيادة الميل إلى الاستيراد ، وبالتالي زيادة العجز . أو قد يقود الاستثمار إلى توفر السلع ، وبالتالي إلى ثبات الأسعار . ما يهمنا هو الأثر الكلي والصورة الشاملة . لكن ذلك لا يمنع من أن نبدأ بالنظر إلى كل جانب على حدة قبل أن نجمع أطراف الصورة .
كذلك يختلف الأثر طبقا لنوع الاستثمار ، وللسياسات التي تتبعها الشركة في مجال الإنتاج والتسويق وتحويل الأرباح .. الخ . الاستثمار الأجنبي قد يأخذ شكل استثمار غير مباشر جديد ، تبدأ فيه الشركة عملا جديدا تماما ، وتبادر بتشييد منشآت إنتاجية . أو قد تقوم الشركة بشراء شركة عاملة . في الحالة الأولى ، تضطر الدولة لاستيراد مواد وماكينات وآليات ... الخ . لكنها لن تستورد شيئا في الحالة الثانية ، وذلك في البداية على الأقل ، وهنا يختلف الأثر المبدئي . غير أن السياسات اللاحقة تختلف أيضا ، وقد تلغي الأثر الأول أو تعضده . فعندما تقوم الشركة الأجنبية بتحويل أرباح إلى الخارج ، فلذلك أثر سلبي واضح على ميزان المدفوعات . لكن إذا قامت الشركة ( م ج ) بدلا عن ذلك ، بإعادة استثمار الأرباح محليا في التوسع في أعمالها في البلد المضيف ، فسيكون الأثر إيجابيا أو على الأقل محايدا . وفيما بين شراء شركة محلية أو إنشاء شركة جديدة ، نجد أن لأساليب الاستثمار الأخرى كالتراخيص وعقود الإدارة أثرا وسطا .
كإطار للنظر في أثر استثمار معين على ميزان مدفوعات البلد المضيف ، دعنا نعمل من خلال المعادلة التالية :
م = ( و + ص + ر ) – ( وٌ + صٌ + رٌ )
حيث : م = الأثر الصافي على ميزان المدفوعات .
و = الواردات السابقة المستغني عنها نتيجة للاستثمار ( إحلال ) .
ص = الصادرات الجديدة الناتجة عن الاستثمار .
ر = التدفق الرأسمالي الناتج عن الاستثمار خلال الصادرات والواردات المتعلقة بقيام الاستثمار .
بينما :
وٌ = الواردات المستجدة التي نتجت عن الاستثمار .
صٌ = الصادرات المفقودة نتيجة للاستثمار .
رٌ = رأس المال الخارج عدا مدفوعات الصادرات والوردات المتعلقة .
المعادلة أو الإطار المطروح بسيط المعنى سهل القبول ، لكن إيجاد القيم والأرقام المناسبة لحسابه صعب نوعا ما . فإذا ما أخذنا الأثر الصافي على الواردات ( الواردات المستغنى عنها ( و) ) ، ناصا الواردات المستجدة ، ( وٌ ) الناتج من قيام الاستثمار ، سنجد أننا لكي نحدد قيمة ( و ) نحتاج لأن نعرف كم كان سيستورد من السلع لو لم يقم ذلك الاستثمار ، الشيء الذي تستحيل معرفته بأي درجة من الدقة . والمؤشر البديل أمامنا ، هو حجم مبيعات الشركة أو الشركات التي أو جدها ذلك الاستثمار ، وحتى ذلك لن نستطيع أن نجزم أن سعر ونوع السلع المنتجة مشابهة تماما لسعر ونوعية السلعة المستوردة أو ما كانت ستستورد . وربما كانت بعض هذه المبيعات على حساب صانع محلي كان سينتجها على أي حال لو لم توجد منافسة أجنبية . وفي تلك الحالة يكون الاستثمار أو جزء منه على الأقل مجرد بدليل لمنتج محلي أبعدته الشركة الأجنبية من السوق ، فإنتاجها إذن ليس كله إضافة لم يكن الاقتصاد المحلي ليجدها بدون ذلك الاستثمار . ومع ذلك يبقى حجم مبيعات الشركة الأجنبية المؤشر الوحيد لدينا لقيمة المجهول ( و ) ، على اعتبار أن كل ذلك الإنتاج كان سيستورد .
وفي حساب ( و ) يجب أن نضمن كل الآليات والمكونات والمواد المستوردة والمستخدمة في إنتاج الشركة الأجنبية . كما لنا أن نضيف إلى هذه الواردات المستجدة ، أي زيادة في الميل إلى الاستيراد ناتجة عن زيادة الدخل الناجم عن الاستثمار الأجنبي .
أما الأثر الصافي على الصادرات ( ص – صٌ ) ، الصادرات الجديدة ناقصا الصادرات المفقودة ، فحسابه أقل صعوبة ، حيث نستطيع أن نقارن حجم ما كنا نصدره من تلك السلعة بحجم ما تقوم بتصديره الشركة الأجنبية الجديدة من سلعة أو سلع معينة تتعامل فيها .وكذلك الصادرات المفقودة تمثل سلعا كانت تصدر سابقا وأوقفت الشركة تصديرها . أو قد نأخذ مجرد التخفيض المطلق في الصادرات الحادث من إعادة التوجه نحو السوق المحلية أو تخفيض الإنتاج في خط أو خطوط إنتاجية معينة ، أو المواد الخام التي كانت تصدر ، والآن تعالج وتباع محليا .
من جانب الدول المصدرة لرأس المال ، دول موطن الشركات الأجنبية . هناك تساؤل عما يؤدي إليه الاستثمار في الخارج ، وأثره على التصدير . يتساءل النقاد : أليس الاستثمار بديلا للتصدير ؟ ألا يؤدي القيام بالاستثمار في الخارج ، كالاستثمار الأمريكي في اليابان ، إلى تقليل الصادرات الأمريكية إلى اليابان ؟ من الجانب الآخر ، هناك من يقول بالعكس أي إن الاستثمار في الخارج – كالمثال أعلاه – يؤدي إلى زيادة التصدير ، لأن الشركة الأمريكية المستثمرة ستشحن آليات وماكينات وأدوات إنتاج من أمريكا لإنشاء المصنع في اليابان ، وقد تشحن إليه بعد ذلك وبانتظام مواد ومكونات سلع ، وسلعا غير تامة الصنع لإكمالها هناك .
ومع وجود الشركة الأمريكية داخل السوق الياباني ، تستطيع الشركة تنمية السوق وزيادة مبيعاتها أضعاف ما كانت تصدر ، وبذلك يؤدي الاستثمار في الخارج إلى زيادة الصادرات . ولذا الاستثمار ليس بالضرورة بديلا للتصدير بل مكملا له في تلك الحالة . وقد لوحظ فعلا أن الشركات الأمريكية المستثمرة في الخارج ، هي الأكثر تصديرا مقارنة بالشركات التي ليست لديها استثمارات . وبالمثل زاد الاستثمار الياباني في الولايات المتحدة من حجم الصادرات اليابانية إلى أمريكا .
أما الأثر الصافي للاستثمار على رأس المال وتدفقه ( ر – رٌ ) ، فهو سهل القياس نسبيا ، حيث إن ما تجلبه الشركة من عملة أجنبية ومن آليات وماكينات تأتي بها شيء واضح ومحسوس . ويمكن قياس المبالغ الخارجة في شكل أرباح موزعة ومحلولة للشركة الأم في الخارج ، أو في شكل إتاوات على استخدام التكنولوجيا المتقدمة والمسجلة باسم الشركة الأم ، كما يحدث في حالة براءات الاختراع والتراخيص ، أو في شكل أجور وتحويلات تقوم بها العمالة الوافدة أو رأس مال مسترد بعد عدة سنوات من الاستثمار ، وهكذا دواليك .
وفي الإجابة عن السؤال : هل يزيد الاستثمار الأجنبي من رأس المال في البلد المضيف ؟ وهل يزيد من تدفق العملة الأجنبية في ميزان المدفوعات ؟ هل تزداد الأموال المتاحة للاستثمار نتيجة الدخل الأجنبي ؟ كانت النظرة تركز دائما على التدفقات الحالية التي تحدث في السنوات الأولى ، ويتركز الخوف دائما على الأموال الخارجة في شكل أرباح وغيرها . لكن النظرة يجب أن تكون طويلة الأجل ، ربما تصل لعشر سنوات وأكثر ، ثم نحكم على التدفقات خلال هذه المدة ، ولا نركز على الموجبة أو السالبة ، بل التدفق في الاتجاهين . كذلك ينبغي أن ننظر إلى الأثر المباشر على الاستثمار ، والأثر غير المباشر ، مثل إشارتنا للزيادة في الاستيراد التي تحدث نتيجة لزيادة الدخل بعد فترة أو الزيادة في الاستيراد التي تأتي كنتيجة لتغير الأذواق الذي قد يحدثه الاستثمار الأجنبي . وهذه أمثلة للأثر غير المباشر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق