لم تهتم النظرية الاقتصادية التقليدية بالاستثمار المباشر كثيرا ، حيث تفترض النظرية أن قيام التجارة الحرة بين البلدان سينفي الحاجة إلى انتقال رأس المال بين البلدان ، إذ سيجعل انتقال السلع بحرية بين الأقطار انتقال عناصر الإنتاج أمرا ضرورة له . بل إن النظرية التقليدية للتجارة الخارجية مبنية على أساس صعوبة واستحالة انتقال عناصر الإنتاج بين الدول كإحدى فرضياتها الأساسية . في السابق ، كان لهذا الإهمال ما يبرره ، حيث إن الاستثمار المباشر كان بالفعل شيئا نادرا ، وكان النمط السائد هو الاستثمار غير المباشر ، حيث انتقلت في القرن التاسع عشر أموال عديدة من العالم القديم إلى العالم الجديد في شكل قروض واستثمارات غير مباشرة ، وحدث العكس في القرن العشرين ، حيث اتجه الاستثمار غير المباشر من العالم الجديد إلى العالم القديم ، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة .
في النصف الثاني من القرن العشرين ، بدأت الصورة تتغير ، وأصبح حجم الاستثمار المباشر كبيرا ، بل أصبح مساويا للاستثمار غير المباشر في الأهمية إن لم يفقه . وكما رأينا في الباب الأول ، حجم الاستثمار المباشر ليس ضخما فحسب ، بل إنه ينمو بدرجة عالية ، وقد كنا قارناه مع التجارة ، وحجم الصادرات . حيث كانت النسبة 10:1 تقريبا أي إن الصادرات كادت تعادل عشرة أضعاف مقارنة بالاستثمار ، لكننا نبهنا بأن مقارنة الأرقام المطلقة مضللة ، لأن الاستثمار المباشر هو رأس المال ، ويمكن لأي شركة أن تنتج وتصدر سلعا تصل قيمتها عشرة أو عشرين مرة ضعف حجم رأسمالها . بذا يمكن القول إن معدل دوران رأس المال المستثمر استثمارا خارجيا مباشرا ، يجعل الاستثمار الخارجي المباشر لا يقل كثيرا في الأهمية عن التجارة الخارجية ، من حيث حجم أو قيمة السلع المتعلقة بهما .هذا الحجم المتزايد والكبير للاستثمار الخارجي المباشر ، يتطلب التنظير والتفسير لفهم مسبباته وآثاره ، والإجابة عن أسئلة مثل : لماذا يحدث الاستثمار المباشر ؟ أي البلدان مصدرة ؟ وأي البلدان تجذبه ؟ وما نوعية الشركات والسلع التي تشمله ؟ الخ .
الاستثمار الأجنبي والنظرية الاقتصادية التقليدية :
تنظر النظرية الاقتصادية التقليدية إلى الشركات متعددة الجنسية كمظهر للاستثمار الخارجي ، الذي تعده شيئا مكملا إن لم يكن تابعا للتجارة الخارجية في السلع والخدمات . تفسر النظرية كلا من التجارة والاستثمار عبر الحدود ، على أساس الفوارق في هبات الموارد الطبيعية بين البلدان والتي تؤدي بدورها إلى فوارق في تكلفة الإنتاج ، كما تؤدي إلى فوارق في العائد لعناصر الإنتاج لرأس المال والعمل . تقود هذه الفوارق إلى التخصص ، ومن ثم التجارة بين الدول .
كذلك نفترض النظرية أن رأس المال ، وعنصر العمل ، قابلان للتبادل ، وإحلال مكان بعضها البعض ، وعندما تكون تكلفة رأس المال عالية نستخدم منه أقل ما يمكن ، ونستعيض عن ذلك باستخدام المزيد من الموارد البشرية والعكس بالعكس ، إذا ما كانت الأجور عالية . على هذا وعندما يكون لمنشأة فائض في رأس المال ، فإنها إما أن تستورد عمالا أو تصدر رأس المال لبلد فيه شح في رأس المال ، وبما أن رأس المال هو الأسهل تنقلا بين جميع عناصر الإنتاج ، لذا يؤدي وجود فائض منه إلى قيام الاستثمار الخارجي . يبدأ رأس المال في التدفق من البلد الأول إلى البلد الثاني ، إلى أن يتساوى العائد لرأس المال فيهما ، حيث العائد أصلا أقل في بلد الوفرة من العائد في البلد الذي به ندرة . وتدفق رأس المال إلى بلد الندرة يخفض من العائد لرأس المال في ذلك البلد . يستمر تدفق رأس المال من البلد الأول إلى الثاني ، ويقترب العائد لرأس المال في كل بلد من قرينه في البلد الآخر ، إلى أن يتساوى ذلك العائد في البلدين ، وتتوقف عملية الاستثمار الخارجي عند ذلك الحد . طبقا للنظرية إذن تبدأ عملية الاستثمار وتنتهي من تلقاء نفسها ، ومحركها هو اختلاف معدلات العائد ورأس المال .
كانت هذه النظرية كافية في السابق لتفسير الاستثمار الخارجي ، عندما كان الاستثمار الخارجي أساسا استثمارا غير مباشر ، أي أنها كانت كافية لتفسير ظاهرة الاستثمار الخارجي غير المباشر ، والذي هو مجرد شراء أوراق مالية أو سندات وقروض وبيعها . لكن الصورة تغيرت كثيرا اليوم ، وأصبح حجم الاستثمار المباشر كبيرا .
الاستثمار غير المباشر قصير العمر ، فقد يبيع مستثمر أسهما بعد أسبوع من شرائها ، أو يستبدل عملة أجنبية بأخرى بعد فترة وجيزة من الحصول عليها . الاستثمار غير المباشر حتى وإن كان في أسهم ، عادة لا يتعدى نسبة قليلة من ملكية الشركة ، وهو لا يشمل ولا يتطلب أي التزامات إضافية ، وهدفه فعلا جني الأرباح ، بل إن العائد هو دافعه الأساسي . من الجانب الآخر ، يمثل الاستثمار المباشر قرارا والتزاما طويل المدى لرأس المال الذي لا يمكن استعادته إلا من خلال استغلال المنشأة المساهم فيها لفترة طويلة ، حيث إن الاستثمار المباشر هو امتلاك لأصول ملموسة لا مجرد أوراق .
فوق ذلك ، لا تفرق النظرية التقليدية بين الاستثمار الخارجي المباشر ، وبين مجرد تحركات رأس المال عالميا لكنهما مختلفان ، حيث الاستثمار المباشر ليس انتقالا لرأس المال وحسب ، بل يتضمن انتقال قدرات إدارية ومعرفة تقنية . كذلك لا تفسر النظرية التقليدية الاستثمار المتبادل بين الدول ، كأن تقوم شركات بريطانية بالاستثمار في هولندا أو ألمانيا مثلا في نفس الوقت الذي تقوم فيه شركات هولندية أو ألمانية بالاستثمار في بريطانيا . فإذا كان الدافع للاستثمار هو الفرق في العائد فعلا ، فلا معنى لأن تكون الحركة في اتجاهين ، وكأننا نقول إن رأس المال البريطاني ينجذب نحو ألمانيا لأن عائد رأس المال في ألمانيا أعلى منه في بريطانيا ، وينجذب رأس المال الألماني إلى بريطانيا في نفس الوقت ، لأن عائد رأس المال في بريطانيا أعلى منه في ألمانيا . ولذلك لا تكفي فروقات العائد لرأس المال لتفسير الاستثمار الخارجي .
هناك إذن حاجة لنظرية تفسر عمليات الشركات متعددة الجنسية تختلف عن نظريات تفسير أعمال الشركات المحلية ، وعن تفسير الاستثمار غير المباشر . فالشركات متعددة الجنسية تختلف عن المحلية ، حيث للأولى شبكات إنتاج وإدارة وتوزيع عالمية ، وهناك عوامل استراتيجية تستدعي التنسيق ، وحاجة للتعامل مع مؤسسات مختلفة . كما أن الرابطة بين الشركة متعددة الجنسية والشركات التابعة أو الزميلة لها ، رابطة عضوية وليست مجرد تعامل مع عميل أو زبون خارجي . يضاف إلى هذا كل العوامل المختلفة التي ذكرناها عندما كنا نناقش السؤال : لماذا إدارة أعمال دولية ؟ ومن الطبيعي أن هذه الظاهرة القديمة الجديدة – ظاهرة الشركات متعددة الجنسية بضخامتها الحديثة وأثرها على الاقتصاد العالمي – استرعت انتباه الاقتصاديين ، وأصبحت مجالا بل تحديا يشحذ الفكر . لذا وفي العقود الأخيرة توفر الكثيرون على دراستها ، وتوفر زخم من النظريات التي نحاول في الصفحات التالية استعراض بعضها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق