في العقود الأخيرة ، زاد حجم الاستثمارات المباشرة بين الدول ، وأصبحت تحركات رأس المال الاستثماري صنوا للتجارة ، كوسيلة للتبادل بين الأمم ، وقد حدثت تغيرات كثيرة في البيئة العالمية مهدت لذلك بل شجعته وهيأت الجو له ، ونذكر بعضا منها كما يلي :
الأسباب غير المباشرة :
النزعة الجماعية : بعد الحرب العالمية الثانية ، ابتعدت دول العالم عن الثنائية في التعامل ونحو الجماعية . في السابق ، كان التعامل التجاري يتم بين دولتين اثنتين كل على حدة ، تعقدان الاتفاقات الثنائية للتعاون الاقتصادي بينهما ، وكانت لكل دولة ترتيبات مختلفة مع كل دولة أخرى فيما يختص بالتعريفات الجمركية ، والضرائب ، والحصص والميزات الممنوحة لبعضهما البعض . نتج عن ذلك كم هائل من الاتفاقيات حول مواضيع تنظيم التجارة والاستثمار واحدة مع كل بلد . وهذه التعقيدات كانت كافية في حد ذاتها لتثنى الشركات من الاستثمار في الخارج لتعد القوانين ، حيث تجد الشركة أن اتفاقيات موطنها مع البلد " س " تختلف عن الاتفاقيات مع البلد " ص " ولا تستطيع الشركة أن تمون سوق " ص " من الاستثمار في بلد " س " . مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وقيام منظمة " الجات " التي سعت إلى تبسيط القوانين التجارية بين البلدان ، وإلى تشابه المعاملة فيما بينها ، سهل التعامل مع أكثر من بلد أمام الإدارات في الشركات المستثمرة ، وأصبحت الشركات تنظر إلى التجمعات وكأنها أسواق واحدة بدرجة متزايدة .
كذلك زادت الاتفاقات الجماعية لتنظيم التجارة والاستثمار كالاتفاقية الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية ، واتفاقية استغلال البحار ، واتفاقية تسوية النزاعات بين الحكومات والشركات التي وقعت على كل منها عشرات الدول . لقيت النزعة الجماعية دعما وزخما من حركات التكامل الاقتصادي ، علما بأن النزعة الجماعية هذه ليست مقصورة فقط على التجارة . فتحت الجماعية إذن أبوابا للاتصالات ، ومعرفة بالأسواق الأخرى ، مما زاد من حجم التجارة والاستثمار .
2-المعونات الأجنبية : المعونات الأجنبية في النهاية ، سلع تشترى من البلاد الصناعية ، ومشاريع تقوم بتنفيذها الشركات من الدول المانحة ، خاصة عندما نتذكر أن كثيرا من الدول الغربية كانت تشترط على الدول المتلقية للمعونة أن تعطي لشركات الدولة المانحة أسبقية في عقود الشراء والتنفيذ التي تمولها المعونة الأجنبية ، أي إن معونتها كانت مشروطة . أما معونة دول منظمة أوبك ، فلم تكن في العادة معونات مشروطة ، ومع ذلك ، كان من الطبيعي أن تحاول شركات الدولة المانحة المنافسة في العقودات التي تنفذ نتيجة للمعونة . بالإضافة إلى ذلك وحتى تتمكن الدول الغنية من القيام باستثمارات مباشرة في الدول النامية العربية والإسلامية ، كان صانعو القرار يدركون أن تطوير البني الهيكلية في الهياكل الأساسية الضرورية للاستثمار .
انخفاض تدفق المعونات الاقتصادية بين الدول في العقود الأخيرة قلل من أهمية هذا العامل .
الحوافز الحكومية : تعمل كثير من الحكومات على جذب الاستثمارات من الخارج حتى تستطيع الحكومات أن تنفذ خططها الائتمانية التي تتطلب خبرات وتقنيات وقدرات تنظيمية ورؤوس أموال قد لا تتوافر محليا . لا تقوم بذلك الدول الفقيرة أو النامية فحسب ، بل إن كثيرا من الدول المتقدمة يعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية . وجدت كثير من الدول أن الشركات الأجنبية تزيد فرص العمالة والصادرات والعائدات الحكومية عندما تنشئ وحدات إنتاجية في البلد المضيف ، فالاستثمار الأجنبي ليس مجرد نقل رأس مال ، بل هو نقل تقنية وإدارة وتنظيم أيضا . لذا كثيرا من الدول يقدم إعفاءات ومزايا للشركات الأجنبية مثل : إعفاء جمركي على الآليات والمواد المستوردة ، حماية جمركية ، إجازات ضرائبية ، قروض حكومية ميسرة ، دعم حكومي ، تسريع للإهلاك ، رسوم مخففة ، فئات مخفضة للوقود ، أرض مجانية .. الخ .
لا يعني هذا أن العوائق أمام الاستثمار الأجنبي اختفت ، بل إن تطبيق مثل هذه السياسات قد يتم بطريقة تنفر الشركات الأجنبية من الاستثمار في بلد ما ، ورغم جاذبية الحوافز على الورق ، فإن تعقيد الإجراءات والبيروقراطية قد يلغيان تلك الحوافز عمليا .
ومن وجهة نظر الشركة المستثمرة ، المهم ليس هو الحوافز ، بل جدوى الاستثمار بدون الحوافز ، وفي تلك الحالة ، تصبح الحوافز أقل أهمية . ومع ازدياد المنافسة بين الدول لجذب الشركات صارت الحوافز ضرورية لكنها غير كافية .
هذا عن التغيرات البيئية ، لكنها وحدها غير كافية ، وينبغي أن يكون هناك سبب مباشر يدفع شرطة ما للاستثمار في بلد خارج وطنها الأصلي .
الأسباب المباشرة :
1- الحواجز التجارية : قد يقوم بلد ما بحماية صناعته الوليدة ، بوضع قيود على سلعة أو سلع معينة تنتج محليا ، أو بفرض رسوم على المستورد منها لتقليل العجز التجاري الذي يعاني منه ذلك البلد ، وهنا تجد الشركة التي كانت تصدر لذلك البلد ، أن صادراتها انخفضت ، وأن سوقها في ذلك البلد انكمش أمامها . عندها قد تجد الشركة أنها لا تتحمل فقدان ذلك السوق ، وبما أنها لم تعد قادرة على التصدير إليه بحرية أو بكميات اقتصادية ، تبدأ تلك الشركة في تشييد وحدات إنتاجية داخل ذلك البلد الذي قفلت أسواقه أمام صادراتها ، حتى تستطيع أن تتفادى تلك الرسوم والقيود ، ولا تفد ذلك السوق ، بل تقوم بخدمته من الداخل . وكما أوضحنا سابقا ، الحواجز التجارية ليست رسوما جمركية وحصصا فحسب ، لكن أي نوع من الحواجز كشعار " اشتر من بلدك " هو حاجز يقلل من التبادل . وقد يكون الهدف من هذه الحواجز هو تشجيع الشركات التي تصدر لذلك القطر ، حتى تستثمر فيه بدلا من ذلك ، فتكون الحواجز قد نجحت في مقصدها إذا تحولت الشركة من التصدير إلى الاستثمار .
في السنوات الأخيرة ، بدأ هذا السبب يفقد أهميته مع تحرير التجارة المتزايد بين الدول ، إلا أن هناك الكثير من الدول النامية والمتقدمة مازال يضع حواجز تجارية أمام الآخرين مثل اليابان ، التي تحد من استيراد الأرز ، ودول السوق الأوروبية التي ظلت لفترة طويلة تحمي قطاعاتها الزراعية ، ومازال بعضها يحمي بعض قطاعات الخدمات كالترفيه .
تقليل تكاليف الإنتاج : مع اشتداد المنافسة داخليا أو من الخارج أو مع التوسع في الإنتاج نتيجة لاتساع السوق ، وعندما تصبح تقنية إنتاج سلعة ما نمطية ومعروفة ، يشتد البحث عن أساليب جديدة لتخفيض تكلفة الإنتاج للتمكن من مواجهة المنافسة السعرية ،وللحفاظ على الأرباح . في تلك الأحوال تصبح البلدان التي تكون فيها العمالة رخيصة وسهلة التدريب جذابة كموقع للاستثمار الخارجي ، وهذا أحد أسباب انتقال صناعات بكاملها من البلدان الصناعية إلى البلدان النامية .
مصدر تقليل تكاليف الإنتاج ليس دائما العمالة الرخيصة وحدها ، بل هناك أشياء مثل تكاليف الشحن والتخزين المرتفعة حيث تجد شركة ما أنه من الأفضل لها أن تنتج في البلد الذي فيه سوقها ، وبذلك توفر تكاليف الشحن والتخزين ، وتصبح قادرة على مواجهة المنافسة السعرية ، لأنها ستنتج داخل سوقها الخارجي أو الداخلي عندما تكون داخله أو على مقربة منه ، مثل الشركات الأمريكية التي حولت منشآتها الإنتاجية من داخل الولايات المتحدة إلى أماكن داخل المكسيك وعلى بعد أميال من سوقها ، أو إلى أماكن بعيدة في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية .
3- الاستثمار الخارجي لضمان التزود بالمواد الخام أو السلع الوسيطة : أحيانا تجد شركة ما أن تزويد احتياجاتها من المواد الخام أو السلع الوسيطة لم يعد متصلا أو منتظما من الدول التي هي مصادرها التقليدية .
يحدث ذلك ، لأن الشركات المزودة في البلد المصدر تكون قد عجزت عن إمداد زبائنها الخارجيين لأسباب إدارية أو مالية تقود إلى توقف عملياتها . أو قد يزيد الطلب على تلك المواد أن عملياتها مهددة بالتوقف ، وأسواقها عرضة للفقدان . عندها ستجد تلك الشركة نفسها مضطرة لإنشاء وحدات إنتاجية داخل البلد الممون ، وبذلك تضمن أن احتياجاتها من المواد الخام أو السلع الوسيطة ستنتظم وتكون بالكميات المطلوبة . ليس ذلك فحسب ، بل إن هدف الشركة قد يكون أن تعالج تلك الخامات قبل شحنها بطريقة معينة ومستوى محدد من الجودة تفشل في مقابلته الشركات المحلية ، وتضطر الشركة المستوردة للاستثمار في ذلك البلد لمعالجة تلك المواد الخام بالطريقة والمواصفات التي تتطلبها . يعرف هذا النوع من التكامل أو التوسع بالتكامل الرأسي حيث تقوم فيه الشركات بعمليات إنتاجية إضافية لم تكن تقوم بها لنفس السلعة .
4-القوة التنافسية والتسويقية : هنا أيضا قد تشعر منشأة ما أن سوقها الخارجي غير مخدوم بالمستوى الذي تفضله ، كأن تكون المؤسسات التسويقية والوكلاء في القطر المعني عاجزين أو غير راغبين في تسويق سلع ومنتجات الشركة الأجنبية بالكفاءة الهجومية المرغوبة ، أو في الترويج لمنتجاتها ، أو تقديم خدمات ما بعد البيع الضروري أمام المنافسة الشديدة ، أو في تنمية السوق العامة . يقود ذلك إلى إحباط استراتيجيات الشركة التسويقية وخططها . ولمنع ذلك من الحدوث تقوم الشركة المصدرة بالاستثمار في منشآت تسويقية أو إنتاجية في ذلك البلد ، حتى تستطيع أن تنسق عملياتها التسويقية العالمية ، وأن تخدم جميع أسواقها بكفاءة .
من الجانب الآخر ، قد تشعر الشركة الأجنبية أن المنافسة الزائدة من الشركات الأخرى أصبحت تهدد أسوقها التقليدية في البلدان الأجنبية ، وأن أكفأ طريقة لمجابهة تلك المنافسة ، هي الوجود في السوق المعني ، والإنتاج داخله ، ألآو التسويق بنفسها داخله ، بدلا من الاعتماد على الوكلاء . بذلك تستطيع تلك الشركة أن تنسق مزيجها التسويقي وعملياتها بدرجة تجعلها تحافظ على أسواقها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق