حيث إن النظرية التالية تربط بين التجارة والاستثمار ، دعنا نستذكر هنا ، أننا في الموضوعات السابقة - يمكن الرجوع لها في المدونة - ، خلصنا إلى أن نظرية الميزة النسبية كما قدمها هكشر – أولين هي التي سادت بين الاقتصاديين ، مما حدا بأحدهم ( Lontief , 1953 ) أن يقوم باختبارها على الطبيعة . المفترض طبقا لتلك النظرية أن الميزة النسبية للولايات المتحدة مثلا ، تكمن في إنتاج السلع التي تستخدم رأس المال بكثافة ، كون الولايات المتحدة دولة غنية . قارن ذلك الباحث بين واردات الولايات المتحدة وصادراتها من حيث الكثافة الرأسمالية . وخلافا للتوقعات ، وجد أن المحتوي الرأسمالي لواردات الولايات المتحدة أكثر نسبيا مما وجد في صادراتها . سمي ذلك بتناقض ليونتييف وحار الاقتصاديون في تفسيره . بيد أن أكثر تفسير مقبول ، هو أن الميزة النسبية للولايات المتحدة تقبع ليس في وفرة رأس المال لديها ، وإنما في تطوير واستقدام السلع الجديدة ذات التقنية المتقدمة . على هذه الخلفية ، ظهرت نظرية دورة حياة السلعة في التجارة والاستثمار .
تستخدم هذه النظرية إطار دورة حياة السلعة المعروف كمدخل لتفسير التجارة والاستثمار الخارجيين . في النظرية المحلية لدورة حياة السلعة تمر مبيعات السلعة – كما نعرف – بعدة مراحل ( الميلاد – النمو – الصعود – الضعف – ثم الفناء ) وتتفاوت مبيعاتها صعودا ونزولا مع تلك المراحل . أما هنا فيفترض أن السلعة تمر في دورة حياتها بالإنتاج المحلي ، ثم التصدير ، ثم الاستثمار الخارجي ، ثم التدهور ، على الأقل بالنسبة للشركة الأصلية وذلك كما يلي :
المرحلة الأولى – الإبداع والإنتاج والبيع في نفس البلد :
تأتي السلع الجديدة كاستجابة لحاجة السوق ، وبما أن السوق المحلي أقرب إلى ملاحظتنا ، لكون معرفتنا بحاجاته أكبر ، ولذا تكون السلع الجديدة في العادة استجابة لحاجة السوق المحلي . فالمخترع الفرنسي تلبي اختراعاته حاجات فرنسية ، والمخترع الأمريكي يلبي حاجات السوق الأمريكي . وبالرغم من أن الإنتاج يمكن أن يتم – في حالة السلعة ، الجديدة المطورة – في أي مكان في العالم فإنه عادة يبدأ في نفس البلد الذي طورت فيه السلعة ، حتى يكون المنتج على مقربة من السوق المستهدف . كذلك السلع الجديدة في العادة تلبي حاجات كمالية في مجتمعات الوفرة ، كما أن التكلفة في البداية تكون عالية ، حيث تكون الشركة المستقدمة للسلعة قد أنفقت الكثير على البحث والتطوير ، بينما يكون السوق في البداية محدودا ، مما يمنع من الاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير ، وتحقيق الوفورات بالتوسع في الإنتاج . ليس ذلك فحسب ، بل يكون الإنتاج مكلفا ، لأن السلعة حديثة العهد ، ولم يتم التغلب على كل المشاكل الفنية المتعلقة بإنتاجها ، كما أن إنتاجها لم يصبح نمطيا بعد .
معنى هذه العوامل ، أن السلع الجديدة تظهر أول ما تظهر في أسواق الدول الغنية أولا ، وكلما كانت الدولة أكثر غنى ، كلما زاد حجم ما تستقدمه تلك الدولة من سلع جديدة . يحدث هذا نسبة لوجود شركات كبيرة ذات إمكانيات هائلة في البحث والتطوير ، تدرس وتبحث في أسواقها لتكتشف سلعا تلبي حاجات تكتشفها عند المستهلكين أيضا . كذلك تكون أسعار هذه السلع في البداية عالية بسبب علو التكلفة ، ولكي تكون مربحة ن يجب أن يكون طلبها غير مرن ، والزبائن لا يهتمون بالسعر كثيرا لأن دخولهم عالية . هذه الصفات للشركات والأسواق تنطبق على أسواق الدول الغنية والولايات المتحدة على وجه الخصوص ، وقد أكدت كثير من الدراسات ذلك ، حيث ثبت أن الولايات المتحدة منبع أكثر من نصف التقنيات الجديدة ، بينما 2% فقط مصدرها الدول النامية .
في هذه المرحلة ، تكون المبيعات مركزة على السوق المحلي ، وبما تم تصدير نسبة بسيطة للدول الغنية الأخرى من بين الدول الصناعية . كذلك تكون أساليب الإنتاج عرضة للتجارب والتبديل والتحرير طبقا لرد فعل السوق ، وملاحظات الزبائن . ويستخدم الإنتاج عمالة ماهرة مكثفة ، حيث لا تكون الآليات الضخمة للإنتاج الشامل قد طورت بعد ، ويلاحظ أننا ذكرنا كثافة عمالة ماهرة ولم نقل عمالة رخيصة .
المرحلة الثانية – النمو والتصدير :
في هذه المرحلة ، تزيد الصادرات إلى الدول الغنية الأخرى ، وتمدها الشركة المبدعة من مصانعها في البلد الأول . كذلك ينمو الطلب محليا في الدول الغنية الأخرى . الزيادة والنمو في المبيعات يمثلان حافزا لتطوير وسائل الإنتاج . ولظهور آليات الإنتاج الكبير تبدأ العملية الإنتاجية في أن تصبح نمطية نسبة للتجارب والتحسينات التي تتم . من الجانب الآخر ، يبدأ المنافسون في الظهور ، وفي إجراء تعديلات وتحسينات على السلعة ، مما يعني أن إنتاج السلعة يبدأ يتطلب تدريجيا عمالة أقل مهارة مما كان في البداية ، ويستمر الطلب في النمو في الأسواق العالمية الغنية والفقيرة .
المرحلة الثالثة – النضج والاستثمار :
في هذه المرحلة ، يبدأ إنتاج السلعة في الدول التي كانت تستوردها ، خاصة الدول الغنية الأخرى ، ويسهل على الشركة المنتجة ذلك القرار ، إذ إنها قد تجد وضعها في الأسواق التي كانت تصدر إليها بات مهددا إما بظهور منتجين محتملين جدد ، وإما لأن الدول المستوردة بدأت تفرض رسوما جمركية على واردات تلك السلعة ، نسبة لازدياد قيمة ما يستورد منها . من الجانب الآخر ، يكون السوق قد اتسع في البلد المستورد ، ووسائل الإنتاج صارت نمطية ، وأصبح عامل الأجور مهما في اقتصاديات الإنتاج . هنا تجد الشركة أنه من الخير لها أن تشيد وحدات إنتاجية في البلد المستورد لتمون السوق من الداخل ، وتقطع الطريق على المنافسين المحتملين .
المرحلة الرابعة – انخفاض مبيعات الشركة صاحبة السلعة :
في هذه المرحلة ، تفقد الشركة الأصلية تحكمها في السلعة ، ويظهر منتجون آخرون في الدول الغنية بل والفقيرة أيضا ، حيث إن السلعة صارت مألوفة وشعبيتها تكون قد زادت ، ووسائل إنتاجها أضحت معروفة ونمطية ، ويصبح عامل التكلفة مهما جدا في الإنتاج ى، مما يدفع الشركات إلى البلدان التي بها عمالة رخيصة سهلة التدريب ، في الوقت الذي تكون فيه أسواق السلعة توسعت وشملت الدول منخفضة الدخل . وهكذا يغدو لتلك الدول ميزة تنافسية . ليس من الضروري أن تبدأ مبيعات تلك السلعة في الانخفاض في جميع أنحاء العالم في هذه المرحلة ، لكن مبيعات الشركة الأولى التي طورت السلعة تكون قد بدأت في الانخفاض في هذه المرحلة .
قامت محاولات عديدة لاختبار صحة هذه النظرية التي توفي صاحبها حديثا في جامعة هارفارد وهو بروفيسور رايمون فيرون 1966 الذي كان يعمل في كلية إدارة الأعمال هناك . وقد وجد أن سلوك بعض السلع الاستهلاكية المعمرة والمواد الصناعية والالكترونيات يتسق مع النظرية لكن مازالت هناك بعض الصناعات التي لا يتفق سلوكها خلال دورة حياتها مع ما يتنبأ به هذه النظرية . هناك أولا السلع التي عمرها قصير نسبيا لتسارع الاختراعات في مجالها والتي تكون دورة حياتها بذلك أقصر من أن تجعلها تصل مرحلة تخفيض التكاليف بالتوسع في الانتاج خاصة في مجال الالكترونيات حيث يحدث التقادم بسرعة شديدة هناك أيضا سلع الرفاهية التي لا يهتم فيها المشتري بالسعر خاصة سلع الموضة والمجوهرات والتي تحمل الأسماء الرنانة فهذه لا تنتقل من بلادها الحالية لتنتج في بلاد أخرى بحثا عن الوفورات وتخفيض التكلفة وما ينتج منها يقصد به فئة وشريحة محدودة من السوق لا التغطية الشاملة .
من الجانب الآخر هناك ميل متزايد لكبرى الشركات العالمية أن تطرح السلع الجديدة في أكثر من سوق واحد في نفس الوقت وأن توزع قدرتها البحثية والتطورية على شركاتها في البلاد المختلفة يضاف إلى ذلك كون التشابه بين المستهلكين عالميا في تزايد مما يعني أن كل سلعة جديدة استقدمت لتلبية حاجة خاصة في سوق بلد معين قد يجد منتجوها أن هناك مستهلكين كثيرين في بلاد أخرى يستشعرون نفس الحاجة ولديهم من الدخل ما يجعلهم لا يهتمون بالسعر كثيرا . عموما النظرية لا تفسر الاستثمار في الخدمات كالبنوك ولا تفسر الاستثمار في الصناعة غير التحويلية كاستخراج المعادن وتهمل القدرات التنظيمية للشركات العالمية في ترتيب شبكات الانتاج وكما أنها تهمل العوامل المؤسسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق