تعتمد المناهج التكنولوجية في الاقتصاد الدولي المعاصر على عدد كبير من الفروض الأساسية التي تختلف في مضمونها واتجاهها عن تلك الفروض الأساسية التي اعتمدت عليها النظرية الكلاسيكية وهي بصدد تحليلها لنمط التجارة الخارجية بين الدول .
وغني عن البيان ، فإن هذا الاختلاف في الفروض التي تقوم عليها كل من المدرستين ينعكس في اختلاف النتائج التي توصلت إليها كل منهما ، ونستهل تحليلنا هذا بعرض الفروض الأساسية للمناهج التكنولوجية ، ثم نعقبه بعقد مقارنة مع الفروض الأساسية لنظرية هكشر – أولين في نسب عناصر الإنتاج . ويمكن تلخيص الفروض الأساسية للمناهج التكنولوجية على النحو التالي :
أولا : يعتبر تدفق المعلومات عن التجارة الدولية عبر الحدود السياسية أمرا مقيدا خاضعا للعديد من القيود التي تعوق حركة انسيابها بين الدول . والمعلومات ليست سلعة حرة على النحو الذي افترضته النظريات الكلاسيكية ، وإنما هي سلعة مقيدة يتطلب عليها القيام بتضحيات تتمثل في تحمل الدول الراغبة في الحصول عليها لنفقات معينة يطلق عليها الاقتصاديون اسم " نفقة المعلومات " . ويترتب على تسليم المناهج التكنولوجية بهذا الفرض نتيجتان هامتان هما :
قيام المنتجين في دولة الاختراع أو التجديد ( مثل الولايات المتحدة الأمريكية ) بتوجيه سياستهم الاستثمارية في مجالات البحوث والتطور ( R & D ) في ضوء ما هو متاح من فرص للأسواق المحتملة للمنتجات الجديدة أو المطورة . وتتضح أهمية هذه المنتجات إذا ما تتبعنا الفرص المتاحة لتصريف المنتجات الجديدة في المرحلة الأولى لدورة المنتج . فهذه الفرص تبدو غير جذابة وغير مشجعة في الكثير من الأحيان على المخاطرة باستثمار قدر هام من رؤس الأموال لارتفاع درجة المخاطرة الناجمة عن عدم توافر المعلومات الكافية ، والتي يرغب المنتجون في توفرها عن أذواق المستهلكين بالخارج والداخل عن الفرص المتوقعة لتصريف المنتج ، وحجم الطلب المحتمل في كل من الأسواق الداخلية والخارجية . ومن بين الصعوبات التي يترتب على وجودها عدم توافر المعلومات هو اختلاف العادات عند المستهلكين وأذواقهم بين الدول ، واختلاف اللغة والديانة وعدم توافر المرافق الأساسية ، وخاصة وسائل الاتصالات الدولية ، ووصول الدوريات والمنشورات العلمية التي يتطلب ، للقيام بإجراء توقع لحجم الطلب الخارجي ، توافرها وانتظام وصولها .
ومما لاشك فيه أن هذا الوضع ينعكس في ضعف ثقة المنتجين بأحوال الأسواق العالمية للمنتجات الجديدة أو المطلوبة ، مما يؤدي إلى تحمل النفقات الكلية للمنتج عالية ، وهو ما يضعف من قدرتها التنافسية في هذه الأسواق .
* تركز الاختراعات في تلك الدول الصناعية المتقدمة ( مثل الولايات المتحدة الأمريكية ) التي تتمتع بطلب داخلي كبير على السلع والمنتجات الجديدة أو المتطورة . أما تلك الدول التي لا تتوافر لديها أسواق داخلية كافية لاستيعاب السلع والمنتجات الجديدة ، فإنها لا تتمتع بميزة نسبية احتكارية في المنتجات الصناعية الجديدة أو المتطورة .
ثانيا : عدم تماثل دوال الإنتاج بالنسبة للسلعة الواحدة بين الدول ، وينعكس هذا الوضع في اختلاف الطرق الفنية للإنتاج بالنسبة للسلعة الواحدة في دول العالم المختلفة . ومضمون ذلك أن أنواع التكنولوجيا المستخدمة في إنتاج سلعة دورة المنتج ليست شائعة أو معروفة من قبل جميع المنتجين ، وليست متوافرة ومتاحة في الأسواق العالمية لمن يطلبها . فهذه الأنواع من التكنولوجيا تعد موضوعا لاحتكارات وامتيازات من جانب دول أو صناعات معينة هي صاحبة الاختراعات أو التجديدات . وعلى هذا الأساس يرى أنصار المناهج التكنولوجية – وفي مقدمتهم بوزنر وهوفباور وفيرنون وهيرش وويلز وجروبر وميتها – أن التغير أو التطور التكنولوجي يمثل عنصرا جديدا من عناصر الإنتاج المعروفة وهي : الأرض ، العمل غير الماهر ، رأس المال البشري ، التكنولوجيا . ومن نتيجة ذلك اختلاف نسب عناصر الإنتاج لم تعد العامل المفسر الوحيد لنمط التجارة الخارجية بين الدول على النحو الذي افترضته نظرية هكشر – أولين كما أوضحنا سلفا . بل إن التحليل السليم لنمط التجارة الخارجية بين الدول يجب أن يأخذ في الاعتبار أن هناك مصادر مختلفة لتباين المزايا النسبية بين الدول ، وبالتالي لقيام التجارة الخارجية . وفي ضوء ذلك يمكن القول إن هناك نوعين من المزايا النسبية :
المزايا النسبية الطبيعية ، وهي المزايا التي اقتصرت نظرية هكشر – أولين على تحليلها وأرجعت الاختلافات فيها إلى تباين نسب عناصر الإنتاج .
المزايا النسبية المكتسبة ، وهي المزايا التي ركزت النظرية التكنولوجية في التجارة الخارجية على تحليلها والبحث عن مصادرها واختلافها . ويمكن القول إن العوامل التالية من شأنها إحداث اختلاف في المزايا النسبية المكتسبة بين الدول :
رأس المال البشري ، والمتمثل في الوفرة النسبية للخبراء والمهندسين والعلماء والباحثين والعمال المتخصصين . ويطلق عليه اسم " الهياكل الرئيسية الإنسانية " .
مزايا اقتصاديات الحجم ، والمرتبطة بوفورات الإنتاج الكبير وتوافر الأسواق اللازمة لتصريف سلع دورة المنتج . ويطلق على هذا النوع من المزايا النسبية أحيانا " المزايا النسبية الديناميكية " للتفرقة بينها وبين المزايا النسبية الاستاتيكية والمتمثلة في ذلك النوع من التحليل الذي ركزت عليه نظرية هكشر – أولين والمعروف باسم المزايا النسبية الطبيعية .
التفوق التكنولوجي لإحدى الدول يمكنها من الحصول على مزايا نسبية احتكارية ذات طبيعة وقتية مرتبطة بطول الفجوة التكنولوجية .
ثالثا : دوال الإنتاج ليست خطية وليست متجانسة على النحو الذي سبق وأن افترضته النظريات الكلاسيكية . ويعبر عن هذا الوضع بالقول بأن زيادة المدخلات في إنتاج إحدى سلع دورة المنتج بنسبة معينة يؤدي إلى زيادة المخرجات بنسبة أكبر نظرا لأن الإنتاجية الحدية لعناصر الإنتاج ليست ثابتة ، وإنما تتغير مع تغير حجم الإنتاج . ويمكن التعبير عن هذا الوضع في صورة أخرى بالقول بأن الإنتاج في ظل الفكر التكنولوجي يخضع لقانون الغلة المتزايدة ( النفقة المتناقصة ) .
رابعا : القدرة الجزئية لعناصر الإنتاج على التنقل دوليا . فالمناهج التكنولوجية في التجارة الدولية – تمشيا مع نظرية رأس المال البشري – تسلم بدرة رأس المال المادي على التنقل بين الدول في صورة آلات ومعدات وغيرها من التجهيزات الإنتاجية . ولقد لقي هذا الفرض دعما جديدا من خلال الدور الذي تلعبه الآن الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومعونات التنمية الاقتصادية ، بحيث يصبح من الصعب علينا مجاراة النظريات الكلاسيكية في التجارة الدولية في افتراضها عدم القدرة الكاملة لعناصر الإنتاج على التنقل دوليا . فالانتقال من الفرض الكلاسيكي القائم على عدم قدرة عناصر الإنتاج على التنقل دوليا إلى فرض المناهج التكنولوجية القائل بقدرة رأس المال المادي على التنقل دوليا قد أتاح لهذا الفكر الجديد إدماج عدد من الظواهر الاقتصادية الهامة في الاقتصاد العالمي إلى التحليل الاقتصادي المرتبط بتفسير نمط التجارة الخارجية بين الدول ، والتي يمكن تلخيصها في الآتي :
التجارة الخارجية بين الدول في السلع الوسيطة والاستثمارية .
دور الشركات متعددة الجنسية في تنمية العلاقات الاقتصادية الدولية .
ولقد تمكن الفكر التكنولوجي من خلال هذا الفرض من توسيع نطاق التحليل الاقتصادي بحيث لم يعد قاصرا على تفسير نمط التبادل السلعي بين الدول ، وإنما امتد ليشمل الحركة الدولية لرؤوس الأموال .
خامسا : ينشأ عن انقسام العالم إلى وحدات سياسية وجغرافية مستقلة صعوبة المضي في مجاراة الفرض الكلاسيكي القائم على خضوع الأسواق الدولية لخدمات عناصر الإنتاج لقواعد وشروط المنافسة الكاملة . فحركة التجارة الخارجية تخضع للعديد من القيود الجارية ( الجمركية وغير الجمركية ) ، فضلا عن الدور الهام الذي تلعبه نفقات النقل في تحديد أسعار السلع والخدمات الداخلة في إطار التخصص والتبادل الدوليين . فالعالم الواقعي يعرف صورا هامة أكثر شيوعا لتنظيمات الأسواق العالمية منها الاحتكار والمنافسة الاحتكارية .
ولقد ساعد التخلي عن فرض سيادة المنافسة الكاملة الفكر التكنولوجي على الأخذ في الاعتبار ظاهرة تنوع المنتجات التي نبهت إليها نظرية ليندر وأخذتها الاعتبار عند تفسير التجارة الخارجية بين الدول المنتمية إلى إقليم اقتصادي معين
سادسا : لا تستبعد المناهج التكنولوجية في الاقتصاد الدولي إمكانية حدوث ظاهرة انعكاس أو تبديل كثافة عناصر الإنتاج في حالة اختلاف مستويات الأسعار النسبية لعناصر الإنتاج في المرحلتين الأولى والثانية لدورة المنتج ( مرحلة المنتج الجديد ، مرحلة المنتج الناضج ) . أو بتعبير متكافئ يصعب القطع في هاتين المرحلتين حول ما إذا كانت سلعة دورة المنتج سلعة كثيفة العمل أم سلعة كثيفة رأس المال عند المستويات المختلفة للأسعار النسبية لعناصر الإنتاج الداخلة في إنتاجها .
سابعا : يأخذ الفكر التكنولوجي في الاقتصاد الدولي من التحليل الديناميكي منهاجا له . فهي تدخل عنصر الزمن في الحساب وتبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى انتقال وضع التوازن الاقتصادي في الدولة محل الدراسة قبل قيام التجارة الدولية إلى وضع التوازن الاقتصادي في هذه الدولة بعد قيام التجارة الدولية .
فلقد أتاح هذا المنهج الفرصة أمام المناهج التكنولوجية لبحث وتحليل أثر التغيرات التكنولوجية على نمط التجارة الخارجية بين الدول دراسة مفصلة وشاملة .
في ضوء التحليل السابق للفروض الأساسية للفكر التكنولوجي في الاقتصاد الدولي يتضح لنا أن الفروض الأساسية التي يقوم عليها هذا الفكر تختلف اختلافا جوهريا عن الفروض الأساسية التي يقوم عليها الفكر الكلاسيكي في الاقتصاد الدولي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق