من السهل علينا في ضوء دراستنا المتقدمة للنظريات البحتة في التجارة الخارجية ، ودراستنا المتقدمة للعلاقات النقدية الدولية أن نستنتج العوامل المختلفة المؤدية إلى اختلال ميزان المدفوعات من الوجهة الاقتصادية ( التوازن الاقتصادي الخارجي ) .. وبصفة عامة يمكن القول بوجود علاقة دالية بين حجم التجارة الخارجية والعوامل الثلاث التالية : تغير مستوى الأسعار ، تغير سعر الصرف الأجنبي ، تغير مستوى الدخل . وفيما يلي شرحا مختصرا لهذه العوامل الثلاثة .
تغير مستوى الأسعار :
يترتب على حالات التضخم أو الانكماش التي تصيب إحدى الدول تغيرات مناظرة في مستويات الأسعار المحلية والعالمية ففي حالة التضخم فإن الزيادة المتقرنة بمستويات الأسعار المحلية من شأنها التأثير على حجم الصادرات والواردات ( وذلك بفرض بقاء العوامل الأخرى على حالها ) . فالنتيجة الطبيعية لهذا التغيير هي انخفاض الطلب الخارجي على الصادرات ، وزيادة الطلب الداخلي على الواردات الأمر الذي يؤدي إلى حدوث اختلال في ميزان المدفوعات ( التوازن الاقتصادي الخارجي ) أما إذا أصيب الدولة محل الدراسة بحالة من الانكماش فإن انخفاض مستوى الأسعار المحلية من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض الطلب على الصادرات ، وزيادة الطلب على الواردات وبطرقة مماثلة يمكن الوصول إلى أن حالات التضخم والانكماش وما يصاحبها من تغيرات مناظرة في مستويات الأسعار العالمية من شأنها أن تؤدي إلى إحداث تغيرات مماثلة في حكم الصادرات والواردات للدولة قيد البحث ، وهو ما يؤدي إلى حدوث اختلال في موازين المدفوعات .
بناء على ذلك يمكن أن نقرر أن كمية صادرات وواردات دولة معينة تتوقف على مستوى الأسعار بالداخل مقارنا بمثيله في الخارج .
تغير سعر الصرف الأجنبي :
سعر الصرف الأجنبي يتولى الربط بين مستويات الأسعار المحلية في بلاد العالم المختلفة ، فإذا كان سعر الصرف الأجنبي أعلى من المستوى الذي يتفق مع الأسعار السائدة في الداخل أدى هذا إلى ظهور عجز في ميزان المدفوعات . وعلى العكس من ذلك إذا تم تحديد القيمة الخارجية لوحدة العملة المحلية عند مستوى أقل معا يتفق مع مستويات الأسعار السائدة في الداخل في علاقتها بالأسعار في الخارج أدى هذا إلى ظهور فائض في ميزان المدفوعات . ويطلق على الحالة الأولى " تقييم سعر الصرف بأعلى من قيمته " وعلى الحالة الثانية " تقييم سعر الصرف بأقل من قيمته " .
ويؤدي تقييم السعر الصرف بأعلى من قيمته ( الحالة الأولى ) إلى جعل السلع المستوردة أرخص في نظر المستهلك المحلي ، والسلع المحلية المصدرة إلى الخارج أعلى في نظر المستهلك الأجنبي . والنتيجة المنطقية لهذا الوضع هي زيادة الواردات وانخفاض الصادرات ، وبالتالي حدوث اختلال سالب في ميزان المدفوعات . أما تقييم سعر الصرف بأقل من قيمته من شأنه أن يجعل السلع المستوردة أغنى في نظر المستهلك المحلي ، والسلع المصدرة أرخص في نظر المستهلك الأجنبي ، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث اختلال موجب في ميزان المدفوعات – ومن أبرز الأمثلة على الحالة الأولى حالة الإسترليني عندما تحددت في عام 1925م بعد عودة إنجلترا إلى نظام الذهب عند حد التعادل الذهبي الذي كان سائدا قبل الحرب العالمية الأولى وتبين بعد ذلك أن هذه القيمة التي تقررت للإسترليني كانت أعلى مما يتفق ومستوى الأسعار الداخلية السائدة في إنجلترا في ذلك الوقت ، ولقد قرر الخبراء أن المغالاة في قيمة الإسترليني في سنة 1925 بلغت حوالي 10% وهو الأمر الذي أدى إلى أن واجهت صناعات التصدير الإنجليزية صعوبات عدة حيث جعل سعر الصرف الجديد السلع المستوردة من الخارج تبدو أرخص في نظر المستهلك الإنجليزي . في حين أن السلع الإنجليزية المصدرة إلى الخارج تبدو أغلى في نظر المستهلك الأجنبي وكانت النتيجة لهذا الوضع زيادة الواردات الإنجليزية وانخفاض الصادرات الإنجليزية مما اضطر إنجلترا في نهاية الأمر إلى الخروج عن نظام الذهب عام 1931
ومن أوضح الأمثلة على الحالة الثانية وهي حالة تقييم سعر الصرف بأقل من قيمته هي حالة الدويتشمارك في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية . فلقد اتضح فيما بعد أنه قد تم تحديد سعر الصرف الألماني تبين فيما بعد أنها كانت أقل مما يتفق مع إمكانيات الإنتاج الألماني عام 1948 . ولقد أدى هذا الوضع إلى أن بدا إنتاج الصناعة الألمانية أرخص في نظر العالم الخارجي كما بدا إنتاج العالم الخارجي أغلى في نظر المستهلك الألماني . وترتب على ذلك حدوث زيادة في الصادرات الألمانية ، وانخفاض في الواردات الألمانية من العالم الخارجي ،وحقق ميزان المدفوعات الألماني نتيجة لذلك فائضا ظل يتراكم حتى عهد قريب . واضطرب ألمانيا الغربية في نهاية الأمر إلى رفع قيمة عملتها الخارجية في مارس 1961 بحوالي 5% إلى تعويم المارك الألماني عام 1971 .
تغير مستوى الدخل :
تؤدي زيادة مستويات الدخول في الدولة قيد البحث إلى زيادة اتفاقها على الواردات ، كما أن انخفاض مستويات دخولها يؤدي إلى انخفاض إنفاقها على الواردات . وبالمثل فإن زيادة مستويات الدخول في الدولة الأجنبية تؤدي عادة إلى زيادة إنفاقها على السلع والخدمات المحلية ، أي إلى زيادة صادرات الدولة محل الدراسة إلى العالم الخارجي ، كما أن نقص مستويات الدخول في الدول الأجنبية يقترن عادة بانخفاض طلبها على السلع والخدمات المحلية ، أي بانخفاض صادرات الدولة قيد البحث إلى الخارج .
وبالإضافة إلى العوامل الثلاث السابقة توجد عوامل أخرى تؤثر في حجم التجارة الخارجية ، وتسبب بالتالي اختلالا في التوازن الاقتصادي الخارجي . ومن بين هذه العوامل تغير عدد المستهلكين الأجانب ، وتغير أذواقهم وتغير المستوى التكنولوجي إلا أنه من الملاحظ أن التغير في هذه العوامل لا يتم عادة إلا في فترات زمنية متباعدة ، الأمر الذي يجعل من الممكن اعتبارها ثابتة عند دراسة العوامل المؤثرة في التوازن الاقتصادي الخارجي .
وفيما يختص بالدول النامية فإنه يمكن إضافة عامل آخر يسبب اختلالا في موازين مدفوعاتها . فالتنمية الاقتصادية تقتضي زيادة واردات هذه الدول من السلع الإنتاجية ومستلزمات الإنتاج وغيرها من السلع التي يمكن أن نطلق عليها "سلع التنمية"
وتستمر هذه الزيادة في واردات سلع التنمية لفترة زمنية طويلة نسبيا ، ويتم تمويلها عن طريق قروض طويلة الأجل متعاقد عليها مقدما . كذلك فإنه في الكثير من الأحيان تضطر الدولة إلى تمويل وارداتها تلك من خلال بنود الموازنة المعروفة بميزان المدفوعات . ويترتب على هذه الزيادة المضطردة حدوث اختلال هيكلي ، مزمن في موازين مدفوعات الدول النامية .
في ضوء التحليل المتقدم يمكن القول أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تؤدي إلى إحداث اختلال في التوازن الاقتصادي الخارجي للدولة وهي : تغير مستويات أسعار السلع والخدمات ، وتغير أسعار الصرف الأجنبية ، ثم تغير مستويات الدخول . من هنا أيضا يمكن أن نقرر أن استعادة التوازن الاقتصادي الخارجي يتطلب إحداث تغيير في هذه العوامل الثلاثة مجتمعة بحيث تحدث التغير المطلوب في ميزان المدفوعات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق